العدد ٢٨-٢٩ - ٢٠٢٠

الإمبراطورية في حقل الألغام

التدخّل العسكريّ الأميركي في لبنان عام 1958

نايت جورج

لا شكّ في أنّ انعدام إمكانيّة الوصول إلى أرشيفات الدول العربيّة يشكّل عائقًا أساسيًّا أمام كتابة غنيّةٍ لتاريخ العالم العربي في القرن العشرين. وهذا يعني ضرورة الاستفادة قدْر الإمكان من أرشيفات الدول التي كانت مسيطرةً بشكل واسعٍ في تلك الحقبة، أو من الأرشيفات الإمبراطوريّة. بتميُّز نادرٍ، أظهرت آيرين غندزير Irene Gendzier في كتابها «تدوينات من حقل الألغام» (١٩٩٧/٢٠٠٦) اتّساعَ الأرشيفات الإمبراطوريّة وأهمّيّتها، إذ تُقرأ بدقّة وبمقاربة نقديّة، تترافق مع معرفةٍ علميّة بتاريخ المنطقة، وتطرح طيفًا واسعًا من الأسئلة المتعلّقة بالدولة والسلطة والمجتمع والاقتصاد والعلاقات الدوليّة. ما زال هذا الكتاب يمثّل عرضًا نموذجيًّا للعلاقات الأميركيّة اللبنانيّة، ولأوّل تدخّل عسكريٍّ أميركيّ مباشر في لبنان والشرق الأوسط١ .

يتميّز عرض غندزير للتدخّل في لبنان عام 1958 عن الدراسات الأخرى بأنه يأخذ بعين الاعتبار، وبشكلٍ دقيق، تقاطعَ السياسة اللبنانيّة الداخليّة مع المصالح الإقليميّة والدوليّة للولايات المتّحدة٢ . تشير غندزير إلى أنّ إدارة الرئيس الأميركي دوايت آيزنهاور نفسها «التي كانت مسؤولةً عن التدخّل في بيروت خلال عام 1958، أقرّت التدخّلات في بورما وكمبوديا والكونغو (زائير) وغواتيمالا وإندونيسيا، وإيران واللاغوس والفيليبّين وفيتنام».

يعزو معظمُ المؤرّخين _ غندزير ومن قبلها _ شأنهم شأن نظامَي حكم كميل شمعون وآيزنهاور، التدخّلَ الأميركي في المقام الأوّل إلى عواملَ خارجيّة، لا سيّما ثورة 14 تموز/ يوليو العراقيّة والفتنة التي تسبّبت بها الجمهوريّة العربيّة المتّحدة٣. إضافةً إلى ذلك، فهم يرون أنّ «التدخّل الأميركي» منحصرٌ بالاحتلال العسكري خلال تمّوز/ يوليو- تشرين الأوّل/ أكتوبر من عام 1958، وبالتالي يفوتهم التأثيرُ الأميركيُّ الواسع في السياسة اللبنانيّة قبل الحرب الأهليّة وبعدها. في المقابل، تلجأ غندزير إلى طيفٍ واسع من موادّ الأرشيف الرسمي للولايات المتّحدة، والمذكّرات الأميركيّة واللبنانيّة، والمقابلات المباشرة، إضافة إلى تمكُّنها من التأريخ في حقلَي العلاقات الخارجيّة للولايات المتّحدة والدراسات المتعلّقة بالشرق الأوسط الحديث. والهدفُ من ذلك رسمُ صورةٍ مفصّلةٍ تغطّي الاندماجَ المتعمّدَ على المدى البعيد بين الطبقة الحاكمة في لبنان والاقتصاد السياسيّ المتفاوت بشكل صارخٍ من جهة، مع سلطة الولايات المتحدة ومصالحها من جهة أخرى. وقد أثار دائمًا هذا التوجّهُ معارضةً واسعة، وإن كانت مشتّتة في كثيرٍ من الأحيان. وكتاب غندزير ليس مجرّد دراسةٍ لسياسة الولايات المتّحدة، بل أيضًا مرجعٌ لا غنى عنه لعهدَي بشارة الخوري وكميل شمعون، وللأشهر الأولى الأساسيّة من رئاسة فؤاد شهاب.

أُسس سياسة الولايات المتّحدة

تحاجج غندزير بأنّ الأهداف الاستراتيجيّة الأميركيّة الطاغية خلال تلك الفترة كانت التصدّي للنفوذ السوفياتي وتأمين الوصول للنفط. بهذا المعنى، يشكِّل هذا المؤلَّف عملاً نادرًا حتّى الآن لكونه يرى إلى لبنان على أنه شكّلَ، خلال منتصف القرن العشرين، محطّةَ تواصلٍ لا غنى عنها في الاقتصاد السياسيّ للنفط الذي تسيطر عليه الولايات المتّحدة في المنطقة. ابتداءً من أواخر أربعينيّات القرن العشرين، تلاقتْ مصالحُ البورجوازيّة التجاريّة الماليّة والطبقة السياسيّة في لبنان ومصالح وزارة خارجيّة الولايات المتّحدة. تصنّف غندزير هذا بـ«ديناميكيّة التدخّل من باب التعاون»، كما تسجّل بأدقّ التفاصيل أحداثَ الانتقال من عهد بشارة الخوري ذي التوجُّه الفرنسي، إلى نظام شمعون الموالي لأميركا. وتركّز على خطّ أنابيب التابلاين الأميركيّة الذي ربط حقول نفط الظهران بالبحر المتوسّط من خلال محطّة الزهراني، وعلى محطّة شركة نفط العراق البريطانيّة في طرابلس، ولو بدرجة أقلّ. في عام 1952، كان 78% من نفط السعوديّة والعراق الخام المتّجه نحو أوروبّا الغربيّة يمرّ عن طريق لبنان، فيما 22% منه يتوجّه نحو الولايات المتّحدة وكندا (ص91). وكانت المحافظة على صلة الوصل هذه ضروريّة لاستراتيجيّة الولايات المتّحدة في الحرب الباردة، فقد جاء في تقييم أجري عام 1955 أنّه يقدَّر بأنّ أوروبّا الغربيّة وحلفاء الناتو يعتمدون على نفط الشرق الأوسط بنسبة 90% (ص91). واستكمالاً لكون لبنان صلة وصلٍ نفطيًّة، كان يملك قطاعَي تجارة وطيران متقدّمَين، الأمر الذي ثبّت مكانَته كصلة وصلٍ أساسيّة في الخدمات الموجّهة للصناعة النفطيّة في الخليج التي تسيطر عليها الولايات المتّحدة. ولقد أدّتْ هذه العلاقةُ المربحة للطبقة الرأسماليّة في لبنان إلى استعدادٍ للتبعيّة لدولة الولايات المتّحدة ومصالح رأس المال فيها.

أدّى هذا التموضعُ الموالي للولايات المتّحدة إلى نقل قاعدة استخباراتها الإقليميّة من القاهرة إلى بيروت بعد فترةٍ وجيزة من انتهاء الحرب العالميّة الثانية. ولطالما استهدف العملُ السرّي الأميركيّ سورية حيث السياسةُ المناوئة للاستعمار أقوى منها في لبنان٤. في مجال الدعاية، نشرتْ «وكالة الولايات المتحدة للإعلام» (USIS)، من مقرّها في السفارة، حوالي 4–5 آلاف إنش من الأعمدة المكتوبة في الصحف المحلّيّة أسبوعيًّا (ص176). قامت السفارة والحكومة وشخصيّات مستقلّة برصد الحركة العمّاليّة عن قرب من أجل التعرّف على الشيوعيّين ومواجهتهم من خلال مراقبتهم، التعرّض لهم، استبعادهم وتأسيس نقابات مناوئة للشيوعيّة والترخيص لها. وكان نظام التمثيل الطائفي هو الذي عمِل على جمْع هذه الأمور معًا، وقد بيّنتْ غندزير أنّ الولايات المتّحدة لطالما عرّفت هذا النظام على أنه «حامٍ لمصالح الطبقة الحاكمة متعدّدة الطوائف» (ص88). وخلص السفير ريموند هير عام 1953 إلى القول بأنّه «لا يجوز تعريض دور لبنان بما هو «جسر عبور إلى الشرق» للخطر من خلال تغييراتٍ في نظامه الطائفيّ» (ص161).

تعمل غندزير بتأنٍّ أيضًا على تكوين صورةٍ للتناقضات في المصالح داخل الحِلف. وكانت نقاطُ الخلاف بشكلٍ خاصّ تشمل الشروط التي تحكم المنافع الضئيلة المستحصل عليها من الوكالات الحصريّة، وكمّيّات المساعدات العسكريّة، وتشمل بدرجة أقلّ دعم الولايات المتّحدة لإسرائيل. إلّا أن هذه النزاعات بقيت محصورةً ومضبوطةً ضمن حدود الخصام الودّي. فمثلاً، في كانون الثاني/يناير من عام 1949، أعلم شارل مالك، وزير لبنان المفوّض لدى الولايات المتّحدة، المسؤولين الرسميّين الأميركيّين بأنّه «في حال نشوب حربٍ شاملة مستقبلاً، فإنّ لبنان مستعدٌّ لأن يضع حقبة فلسطين جانبًا وأن ينظر في سياسته الخارجيّة على أساس الصداقة مع القوى الغربيّة» (ص125)٥. بالطبع أشارت الحكومة اللبنانيّة في ذلك الوقت إلى أنّها ما زالت مستعدّة لفتح موانئها ومجالها الجوّي العسكري للولايات المتّحدة في حال نشوب مثل تلك الحرب، جاعلةً بذلك لبنان جزءًا من «قاعدة تجميع لوجستيّة» للولايات المتّحدة (207–208).

«رَجُلنا في بيروت»: عهد شمعون

يشكّل عهد كميل شمعون (1952–1958) محور الكتاب. تكشف غندزير أنّ شمعون مند بداية رئاسته ضرب عرضَ الحائط بالحياديّة المفترضة لـ«الميثاق الوطني»، وقطَعَ وعدًا للمسؤولين الرسميّين الأميركيّين والبريطانيّين بأنّ لبنان سيكون «مائة بالمائة إلى جانب الغرب، أكان ذلك بواسطة اتفاقيّة بهذا الخصوص أم من دونها» (ص183). كان شمعون وحليفُه المقرّب شارل مالك، وزير خارجيّته منذ 1956، يرغبان في الحصول على مساعداتٍ أميركيّة عسكريّة واقتصاديّة ضخمة. بعد ذلك بفترة وجيزة، استجاب شمعون لطلب مدراء تنفيذيّين أميركيّين في قطاع النفط باستبعاد حليفه المؤقت كمال جنبلاط من الوزارة. فقد اعتبر هؤلاء جنبلاط بمثابة مشروع «محمّد مصدّق لبناني» ينوي تأميم البُنى التحتيّة للنفط٦. عام 1953 وافق شمعون على مشاركة الولايات المتّحدة بكمٍّ كبير من المعلومات الاستخباراتيّة العسكريّة، متوقّعًا مقايضة في الأمر (186–187). لكنّ توقّعاته لم ترتكز على أيّ أسس، فكان أن أطلقتْ نمطًا من التعاطي الأميركيّ اللبناني يخضع فيه لبنان رسميًّا للهيمنة الأميركيّة وبإرادته، بينما يحصل على القليل في المقابل (182).

في عصر القوميّة العربيّة الناصريّة المناهضة للاستعمار، راحت الولايات المتّحدة تشيد بشمعون كـ«أفضل رئيس جمهوريّة ممكن للبنان في هذه المرحلة من التاريخ، ومن الواضح أنّ استمراره في منصبه هو في مصلحة الولايات المتّحدة» (202). لقد أيّد شمعون رسميًّا «مبدأ آيزنهاور» مباشرةً بعد إقراره، في آذار/ مارس 1957، وبموجب هذا المبدأ تتعهّد الولايات المتحدة بدعم عسكريٍّ لمساندة أي «دولة أو مجموعة من الدول تطلب المساعدة في مواجهة عدوان مسلّح من أي دولة تسيطر عليها الشيوعيّة العالميّة».

استجلب هذا القبولُ ما يقارب 13 مليون دولار أميركيّ كمساعدةٍ للتنمية الاقتصاديّة وكهبَةٍ عسكريّة، إضافة إلى مبلغٍ غيرِ معروف تمامًا (إنّما كبير) من المال لدعم المرشحين الشمعونيّين في انتخابات 1957 البرلمانيّة، على اعتبار أنّ الفائزين فيها سينتخبون خليفة شمعون (219، 222ــــــ223). لكن كلّما أغدق شمعون في خدماته لواشنطن، ازدادت المعارضة المحلّيّة ضدّ نهجه الموالي باندفاعٍ للولايات المتّحدة. وجاء انتصار شمعون الساحق لدرجة مخجلة في الانتخابات المزوّرة، ليضع حدًّا لمصيره على الصعيد المحلّيّ.

«الخطّاف الأزرق»

في 13 نيسان/ أبريل، وبعد خمسة أيّام على بدء الاقتتال الأهليّ، أبرق وزير الخارجيّة الأميركي جون فوستر دالاس إلى شمعون بلائحةٍ مفصّلة من التعليمات عن كيفيّة طلب التدخّل من الولايات المتّحدة (246–247). وهذا يشكل بالنسبة لغندزير البرهان القاطع على أنّ إنزال قوّات المارينز في 15 تموز/ يوليو لم يكن نتيجة للانقلاب الثوري في العراق، بحسب التفسير الساري عمومًا، إنّما كان مخطًّطًا لهذا التدخّل قبل ذلك بفترة طويلة من أجل إنقاذ نظامٍ صديقٍ بدلاً من الرضوخ للمعارضة الداخليّة له (242)٧. وقد أعطى دالاس تعليماتٍ لشمعون بعدم اللجوء إلى «مبدأ آيزنهاور» والذي كان من الواضح أنّه لا يتماشى مع الواقع الفعليّ في ذلك الحين، بل كان يتوجّب طلب القوّات الأميركيّة من أجل «حماية الأرواح والممتلكات الأميركيّة». وشدّد دالاس على أنّ وجود قوّات عسكريّة أميركيّة يفسح المجال للجيش اللبناني بالتفرّغ للعمل في مناطق أخرى. كانت الدعوة من قِبل الحكومة اللبنانيّة بهذه الشروط تؤمّن لآيزنهاور عدم الاضطرار لطلب موافقة الكونغرس الأميركي من أجل حقّ التصرّف، بينما هو يحاول أن يغطّي على ديبلوماسيّة البوارج الحربيّة الأميركيّة (248). في 19 أيّار/ مايو وصلتْ حمولة خمس طائرات من المعدّات العسكريّة، ووصل دعم بريطانيّ وفرنسيٌّ في الأيّام اللاحقة (252). وتزايدت التحضيرات من أجل إنزالٍ عسكريٍّ تزايد في لبنان يومًا بعد يوم.

تُركّز غندزير على القوّة الذاتيّة لبعض الجهات الفاعلة، حين تكشف النقاشاتُ داخل مؤسّسة اتخاذ القرار الأميركي. ففي هذا الصدد هنالك فكرةٌ أساسيّة ثابتة هي التفاوت بين المسؤولين في السفارة ببيروت، الأقسى نقدًا في تحليلهم للسياسة اللبنانيّة، ونظرائهم في واشنطن، الأكثر ميلاً للاستهتار، والأكثر استعدادًا على العموم للتغاضي عن تفاصيل الفساد، وقلّة الإنتاجيّة، وخفْض قوّة المعارضة، وذلك لصالح نظرةٍ شاملة تضع أولويّاتها في الحفاظ على لبنان مؤيّدٍ للغرب من ضمن الإطار الأشمل للحرب الباردة. إضافةً إلى ذلك، لطالما افترقتْ سياسة وزارة الخارجيّة الأميركيّة عن سياسة وكالة الاستخبارات المركزيّة CIA. فخلال أزمة 1958، كان السفير روبرت ماكلينتوك ينتقد بشدّة موقف الثنائيّ شمعون مالك، إذ كان يجد في مجاهرتهما بموقفهما الموالي للولايات المتّحدة أمرًا مُكلِفًا حين تؤخذ بالاعتبار قوّةُ المعارضة وتركيبتها الموالية إجمالاً للغرب. وكان ماكلينتوك قلقًا من أنّ سياسات شمعون تهدّد بتحويل لبنان إلى «نوعٍ من إسرائيل مسيحيّة محاصَرة من قبل جيرانها وعاجزة عن أن تحافظ على بقائها إلّا في ظلّ مَدافع البوارج الحربيّة الأجنبية» (٢٣٨). بدلاً من ذلك كان رأي ماكلينتوك، حسب جندزير، أنه «من الممكن فصل القائد عن النظام» (220). (سيلاحظ القارئ أنّ هذه السياسة عادتْ بشكلٍ بارز بعد الانتفاضات العربيّة عام 2011). وعلى العكس منه، كان عميل وكالة الاستخبارات المركزيّة ويلبر كرين إيفلاند ملتزمًا بشمعون وشارل مالك بما هما صمّام الأمان الوحيد لمصالح الولايات المتّحدة الأميركيّة، وخاصّة للشبكة الاستخباراتيّة التي تعمل خارج بيروت (230–232). لكن ينبغي النظر إلى تحليل ماكلينتوك النقديّ في السياق المناسب، إذ إنّه في اجتماعه مع شمعون في شباط/ فبراير 1958، أخبر الأخير بأنه في حال قرّر الترشّح فإن الولايات المتّحدة «لن تمانع القرار» بالرغم من نصيحته للرئيس المُحاصَر بعدم السعي لولاية ثانية (236). وبحسب غندزير فإن هذا «سمح للرئيس اللبناني بأن يفترض استمرار الدعم الأميركيّ له» (236).

في قراءته لهذه الإشارات، هدفَ شمعون إلى تدخّلٍ عسكريٍّ أميركي يتجاوز عمليّةً تقتصر على المحافظة على السيادة اللبنانيّة، فحثّ المسؤولين الرسميّين الأميركيّين على الدفع باتّجاه «تنظيفٍ شامل في الشرق الأوسط» (318). دعمت إسرائيلُ وتركيا وإيران الشاهَ في موقفه هذا بشكل ملحوظ (322).

لماذا استغنى الأميركيّون في النهاية عن شمعون ودعموا شهاب على الرغم من حياده الذي جعله موضع شكٍّ دائمٍ في نظر كبار الرسميّين الأميركيّين؟ في 30 تمّوز/ يوليو سأل شمعون ومالك ورئيس الوزراء سامي الصلح المسؤولين الأميركيّين بصراحةٍ عمّا إذا كانت القوّات الأميركيّة مستعدّة لأن «تدافع عن الحكومة الحاليّة بالهجوم على الجيش اللبنانيّ بواسطة قوّاتنا نحن [القوّات الاميركية]» (345). فكان أن وصل المسؤولون الرسميّون الأميركيّون سريعًا إلى استنتاج أنّ الرجل الذي يمكن أن يُرضي المجتمعَ السياسيَّ في لبنان على أفضل وجهٍ بينما يحفظ مصالح الولايات المتّحدة هو الجنرال شهاب، وما أثار استياءهم هو كَون عبد الناصر قد اقترح اسمه قبل بضعة أشهر. أمّا شمعون ومالك فقد احتجّا على شهاب حتّى اللحظة الأخيرة ودعوَا إلى انتصارٍ عسكريٍّ للحكومة.

التحديث العسكريّ: الركيزة الأميركيّة لنظام شهاب

تعطي غندزير براهين مُقنِعةً على أنّ التوجّه السياسيَّ لنظام شهاب قد خُطِّط له إبّان الاحتلال الأميركيّ ما بين آب/ أغسطس وتشرين الثاني/ نوفمبر 1958 بالتشاور الوثيق مع السفير ماكلينتوك . صاغ ماكلينتوك٨ نصيحتَه لشهاب، المبتدئ في عالم السياسة، من منطلق «الحفاظ على ماء الوجه الشرقي»، فمن أجل حماية النظام الموالي للغرب، يجب التوصّل إلى توازنٍ ما بين أنصار شمعون والمعارضة. نصح ماكلينتوك شهابَ بتطبيق قانون العفو العامّ عن أحداث ١٩٥٨ (350)، وتشكيل حكومة متوازنة في وزرائها ما بين الشمعونيّين والمعارضين، وتوسيع المجلس النيابيّ بجعله 88 مقعدًا بدلاً من 66 (353). بعد ثورة الموالين المضادّة بقيادة حزب الكتائب في 19 أيلول/ سبتمبر، دعا شهاب، وأيضًا فيليب تقلا وبيار الجميّل، ماكلينتوك للوساطة بين الأطراف، مُعطين بالتالي شرعيّةً لإشراف الولايات المتّحدة على تشكيل الحكومة (352). في الواقع، تُصوّر غندزير دورَ الولايات المتحدة على أنّه كان حاسمًا في تلك اللحظة. انتهز ماكلينتوك هذه الفرصةَ ليدفع بزخمٍ نحو إشراك بيار الجميّل في الحكومة، الأمر الذي عارضه شهاب في البداية. ولمّا طالت المشاورات لتشكيل الحكومة وسط تجدُّد الصراع الأهليّ، قدّم ماكلينتوك في 14 تـشرين الأول/ أكتوبر عرْضًا بـ«دعم الموازنة» بشكل عام بقيمة 25 مليون دولار لمدّة سنة واحدة في حال التمكّن من تشكيل «حكومة ائتلافيّة» (356). في اليوم التالي شكّل شهاب وزارته الرباعيّة، لتحقيق توازن القوى السياسيّ والطائفيّ، من المارونيّين بيار الجميّل، الذي مثّل الموالين، وريمون إدّه، ممثل المعارضة المعتدلة، والمسلمين، رشيد كرامي، ممثلاً المعارضة وحسين العويني ممثًلاً المعارضة المعتدلة. وكلّهم على علاقة جيّدة مع الولايات المتّحدة. ولتعزيز النظام الجديد، قدّمت الولايات المتّحدة 1,7 مليون دولار على شكل قروض للتنمية لعام 1959، ما يوازي 15% من مجمل صندوق قروض التنمية الأميركيّ.

جاء التوازن السياسيُّ والبرنامج التنمويّ لشهاب بضمانةٍ أميركيّة إلى حدّ كبير، وكذلك الأمر بالنسبة للجانب المهمّ الآخر من عهده دور «المكتب الثاني» [استخبارات الجيش] كحَكَم لما هو مسموح به في السياسة الذي حظي بتشجيعٍ أميركيٍّ قويٍّ منذ البداية. فأطلقتْ شبكة من الأجهزة الأمنيّة الأميركيّة بإدارة ماكلينتوك استثمارًا أساسيًّا في لبنان يقوم على تدريب وتعزيز قوى الأمن الداخلي. أدار ألبرت إي دوبوا، رئيس جهاز الشرطة وعميل وكالة الاستخبارات المركزيّة، «عمليّة لبنان» مباشرة بعد انتهائه من الخدمة بما هو «مدير السلامة العامّة» للحكومة الاميركيّة لدى الديكتاتوريّة العسكريّة في تايلاند٩.

وكانت الإدارة الأميركيّة قد قدّمتْ مساعدةً عسكريّة بقيمة 4.1 ملايين دولار مع بداية الاحتلال الأميركيّ في تموز/ يوليو 1958 (362). بتعبيرٍ آخر، برغم رحيل الثنائيّ الموالي بحماسةٍ للولايات المتّحدة، شمعون ومالك، أضحى التأثير الأميركيّ أقوى في لبنان والمصالح الأميركيّة أكثر ضمانًا فيه في بداية عهد شهاب بالمقارنة مع حُكم شمعون. وبنهاية 1958 كانت الولايات المتّحدة قد حلّتْ محلّ البريطانيّين كمدافِعٍ قويٍّ عن الأمر الواقع على المستوى الإقليميّ.

تقييم

تبقى نقاط القصور القليلة هامشيّةً في هذا الكتاب قياسًا إلى العرض الذي يقدّمه. فهو يزخر بالاقتباس الحرفيّ الذي يكشف عن الخطابَين الاستشراقيّ من جهةِ الولايات المتّحدة، والمحابي للاستعمار من الجهة اللبنانيّة. إلّا أنّه يفتقر إلى الخوض في القضايا الإيديولوجيّة التي تكمن في العلاقات الأميركيّة العربيّة. فمثلاً، كان بإمكان غندزير التركيز أكثر على النشاط التبشيريّ الأميركي في لبنان خلال القرن المنصرم، ما جعل بيروت مدخلاً مثاليًّا للأميركيّين إلى الشرق العربيّ؛ إضافة إلى التقارب الإيديولوجي واللاهوتي بين شارل مالك وجون فوستر دالاس١٠. ثانيًا، قد يكون من الأنسب للقارئ لو جاءت مفاهيمها واستنتاجاتها في صياغةٍ أكثر صراحة. مع الأسف لا تشير غندزير بوضوحٍ كافٍ إلى مؤلّفها السابق المتعلّق ببرامج الولايات المتّحدة للتنمية من أجل تحليل أعمق لـ«برنامج النقطة الرابعة»١١.

وحتى وإنْ بقيَت أرشيفات البلدان العربيّة بعيدةً عن متناوَل اليد، فمن الضرورة بمكان ما أن يتخطّى التأريخ المصادرَ الغربيّة للأرشفة، بحيث يشتمل أيضًا على سجلٍّ هائل لم يستغلّ بعد، من نصوصٍ مختلفة، وسجلّات وسائل الإعلام، وتأريخ شفويّ١٢. فمن خلال إدخال الجانب العربيّ من العلاقات الأميركيّة العربيّة فقط يصبح بالإمكان التوصّلُ إلى سرديّةٍ معمّقة للدور الكارثيّ للإمبرياليّة الأميركيّة في العالم العربي.

في المحصِّلة، يستحقّ هذا العمل الغنيّ لغندزير الاهتمام الكبير من كل المهتمّين بتاريخ لبنان والعلاقات الأميركيّة العربيّة.

العدد ٢٨-٢٩ - ٢٠٢٠
التدخّل العسكريّ الأميركي في لبنان عام 1958

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.